حين مولده أمطر تشرين وشربت الأرض حتى ارتوت، كان ثالث الأبناء وأكثرهم حظوة لدى والديه فهو أكثر أخوته الأربعة خلقاً ووسامة بحيث كان نقاء نفسه ينعكس على محياه بشكلٍ واضح.
أحبه كل من عرفه في مدرسته فكان مثال العلم والأدب؛ مضت سنوات دراسته بنجاح وآن له أخيراً أن يحقق حلم والده بنيل شهادة في الاقتصاد من دولة غربية كي يكون خير عونٍ له في تجارته وأعماله فيزهو به بين أقربائه وأصدقائه.
تم العزم على الأمر ووقع الإختيار أخيراً على فرنسا كي تكون شهادته من إحدى أكبر جامعاتها.
بدأ الشاب يعد عدته ويحزم في حقيبته ما تيسر له من ذكريات طفولته ومراهقته و يحفظ في مكان آمن عهده لأهله بأن يعود اليهم كما ودعهم نقياً لا تعكره شوائب الحياة هناك خلف البحر بعيداً عن ستارة أخلاقه القويمة التي حمى نفسه خلفها لسنوات.
أتى اليوم المنتظر وآن أوان السفر... بيد أن الشاب الماضي في رحلته إلى دنياه الجديدة لم يكن يعلم أنه بعد هذه الرحلة محالٌ له أن يعود كما كان وأنه مذ فارق غرفته وسريره قرب النافذة تغير كل شيء حتى عدد النجوم التي كانت ترش النعاس في عينيه كل ليلة.
بين ألوان صورٍ جمعها لمدينة الأضواء في مخيلته وصوت دموع والدته المتساقطة على كتفه، حطت الطائرة في مطار باريس وحطت معها أحلامٌ تبحث عن سبيلٍ لتحقيقها، دخل المدينة الجديدة وراح يستكشف معالمها إلى أن وصل إلى الجامعة، وضع أغراضه في غرفةٍ خصصت له ضمن السكن الجامعي ليس فيها من غرفته التي تركها تنتظره في حضن بيت أهله سوى ضوء القمر الذي تسلل إلى الغرفة باكراً؛ رمى جسمه الذي أنهكته فكرة السفر أكثر من السفر بحد ذاته واستسلم للنوم.
في الصباح داعبت أهدابه أشعة شمسٍ باردة معلنةً بداية النهار، لملم تعب غربةٍ سكنته مذ غادر حدود سماء بلده واستعد لخوض أول أيام دراسته الجامعية محاولاً تعزيز ثقته بأن اختلافه سيتكفل بحمايته فهذا الإختلاف هو دليل تميزه وخصوصيته.
نجحت خطته طوال عامين انكب فيهما على دراسته مبتعداً عن الضوضاء خارج غرفته الصغيرة متجاهلاً أطياف العطور الفرنسية التي كانت تعبق في كل مكان مشكلةً ترنيمة يصعب لأي شابٍ صم آذانه عنها، لكن وائل رغم كل حيطته لم يصمد طويلاً....